تابع الباب الثالث(275)
تابع ما بعد تبليغ الرسالة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم(275)
تابع الفصل الرابع (107)
تاسعاً: تابع فتح مكة (5)
وقد بلغ الجيش مرّ الظهران، وكملت عدته عشرة الآف رجل، من بني سليم سبعمائة نفر، ويقول بعضهم ألف نفر، ومن بني غفار أربعمائة نفر، ومن أسلم أربعمائة نفر، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، والباقي من قريض والأنصار وحلفائهم، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.
٭ إسلام أبو سفيان بن الحارث بن حرب، وعبد الله بن أميّة بن المغيرة، وإجارة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لأبي سفيان
لقد اقتربت جحافل الإسلام من مكة، فخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، يتحسسان الأخبار وينظران هل يجدان خيراً أو يسمعان به، فلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيق العقاب، فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها فيهما، فقالت: (يا رسول الله، ابن عمك، وابن عمتك وصهرك)، قال صلى الله عليه وسلم:(لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال)، فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبي سفيان بني له، فقال:(والله ليؤذننّ لي أو لآخذن بيد بنيّ هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعا)، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقّ لهما، ثمّ أذن لهما، فدخلا عليه وأسلما، فأنشده أبو سفيان بن الحرث قوله في إسلامه واعتذر إليه مما مضى منه
لعمرك إنّي يوم أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله لهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هاد غير نفسي ونالني مع الله من طرّدت كلّ مطرّد
أصدّ وأنأى جاهداً عن محمد وأدعي وإن لم أنتسب من محمد
هم ما هم من لم يقل بهواهم وإن كان ذا رأي يلم ويفنّد
أريد لأرضيهم ولست بلائط مع القوم ما لم أهد في كلّ مقعد
فقل لثقيف لا أريد قتالها وقل لثقيف تلك: غيري أوعدي
فما كنت في الجيش الذي نال عامرا وما كان عن جرّى لساني ولا يدي
قبائل جاءت من بلاد بعيدة نزائع جاءت من سهام وردد
معاني الكلمات: أحمل راية: كنّى بذلك عن شهود الحرب ودعوته إليها، اللات: صنم من أصنام العرب وأراد بخيل اللات جيش الكفر والشرك، خيل محمد: أراد بها جيش المسلمين، المدلج: الذي يسير ليلاً، مطرّد: بمعنى الطرد، أصدّ: أمنع الناس عن الدخول في الايمان، أنأى: أبعد بنفسي عنه، جاهداً: مجتهداً، يفنّد: الكذب أو اللوم، لائط: ملصق، أوعدي:هدّدي.
فلما أنشد أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الله من طرّدت كلّ مطرّد، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، فقال:(أنت طرّدتني كلّ مطرّد).
لقد كان أبو سفيان بن الحارث يهجو بشعره رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً، وأما عبد الله ابن أمية فقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(فوالله لا أؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك كما تقول: ثم وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك).
ومع فداحة جرمهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهما وقبل عذرهما، وهذا مثال عال في الرحمة والعفو والتسامح، ولقد كفّر أبو سفيان بن الحارث عن أشعاره بهذه القصيدة البليغة التي قالها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وبيان اهتدائه به، ولقد حسن إسلامه وكان له موقف مشرّف في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة حنين.
تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره حتى أتى مرّ الظهران، فنزل فيه عشاء، وأمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة الاف نار، فأضاء الوادي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
لقد رأى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه من جيوش ابن أخيه ومن قوته ما راعه وأزعجه، ولعله أفضى بمخاوفه على أهل مكة وهم الأهل والخلان والأصدقاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله: ماذا يصح إذا طلبت قريش أمانة، وتظل مكة حراما كما كانت وكما يجب أن نكون؟، وكانت قريش قد بدأت منذ نزول المسلمين مرّ الظهران تشعر بأن خطراً يقترب منها.
يقول ابن هشام رضي الله عنه، في كتابه السيرة النبوية، نقتبس منه: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ الظهران، قال العباس بن عبد المطلب:(واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر)، قال العباس: (فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها، حتى جئت الأراك، فقلت لعلي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة).
فوالله إني لأسير عليها والتمس ما خرجت له إذ سمعت أبا سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول:(ما رأيت كالليلة نيراناً قطّ ولا عسكرا)، فيقول له بديل:(هذه والله خزاعة حمشتها الحرب)، فيقول أبو سفيان: (خزاعة أذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها)، فعرفت صوته، فقلت:(يا أبا حنظلة)، فعرف صوتي، فقال:(أبو الفضل؟)، قلت:(نعم)، قال: (مالك فداك أبي وأمي؟)، قلت:(ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله)، قال:(فما الحيلة فداك أبي وأمي؟)، قلت:(والله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فأركب في عجز هذه البغلة حتى أتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستأمنه لك): فركب أبو سفيان خلف العباس رضي الله عنه، ورجع صاحباه، فجاء العباس به، فلكما مرّ بنار من نيران المسلمين، قالوا:(من هذا؟)، فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها، قالوا:(عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته).
حتى مرّ العباس بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال:(من هذا؟، وقام إليّ)، فلما رأى أبو سفيان على عجز الدابة، قال: (أبو سفيان عدوّ الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد)، ثم خرج عمر رضي الله عنه يشتدّ نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء، يقول العباس: (فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه؟)، فقال العباس رضي الله عنه: (يا رسول الله، إني قد أجرته)، ثم جلس العباس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ برأسه، وقال:(والله لا يناجيه الليلة دوني رجل)، فلما أكثر عمر في شأنه، قال العباس:(مهلا يا عمر، فوالله أن لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا؟، ولكن عرفت أنه من رجال بني عبد مناف)، فقال عمر رضي الله عنه:(مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أنّ إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به؟).
يقول العباس رضي الله عنه:(فذهبت به الى رحلي، فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:(ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله)، قال أبو سفيان:(بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عنّي شيئاً بعد)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله)، قال أبو سفيان: (بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه، والله فإن في نفسي منها حتى الآن شيئا)، فقال العباس رضي الله عنه لأبي سفيان: (ويحك أسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك)، قال العباس رضي الله عنه:(فشهد أبو سفيان شهادة الحق، فأسلم).
قال العباس رضي الله عنه: (يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحبّ هذا الفخر فأجعل له شيئا؟)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن).
فلما ذهب العباس لينصرف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( يا عباس أحبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمرّ به جنود الله فيراها)، قال العباس رضي الله عنه: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه، ومرّت القبائل على راياتها، كلما مرّت قبيلة، قال أبو سفيان: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمرّ القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟، فأقول مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لي ولبني فلان)