بسم الله الرحمن الرحــــــيم
المقدمــــــة
إن الحمد الأكمل والثناء الأعظم والتوجّه المحقّ والارتقاء في عالم الغيبيات كله مردّه إلى الله جلّ ثناؤه، ابتداء وانتهاء تفصيلا وإجمالا، لا يطاوله طائل، ولا يحدّه حائل أو حاجب، مسترسلا رغبة وقهرا، في مشكاة العبوديّة، حتى تتحقّق من جمال الذات، ومظهر الصفات، تحقّقا موصولا، يقول الله تعالـى :( لا مقطوعة ولا ممنوعة / الواقعة آية / 33 ) .
ومن مستلزمات هذا التحقّق : أن يكون دائم العطاء، متلونا براقا في ماهيّته، له ظهور قويّ، ينير الطريق القويم للسالكين، والمشرفين، والواصلين، فيحصل لهم نصيب وافر من السير إلى الله أولا، ثم السير في الله ثانيا، حيث كلما ابتدأ انتهى .
إنّ الحلقات الكماليّة في القرآن الكريم كتاب الله المنزل، ذلك الحبل المتدلي طرفه الأوّل في السماء، وطرفه الآخر في الأرض، حتّى يكون نجاة لكلّ من تمسّك به قولا وفعلا وحالا، فعندها يدلهّم العلم الموهوب متواردا على صفحات قلبه رتلا تلو رتل، فيحصل غيبة لصاحب ذلك الحال عن نفسه ولو برهة من الوقت، وعندما يردّ إلى بشريّته يجد قلبه بأنّه خلق لتوّه الآن، لقد تمّ غسله ونقش عليه من مدد الأنوار ما يليق بصاحب العطاء جلّت قدرته.
إنّ الدائريّة المغلقة على ذاتها في كلام الله المتنزّل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي محكمة بحقّ، قلّما يخترقها ويطلّع على جوهر مكنونها إلا القّلة النادرة من عباد الله، يقول الله تعالى :( وقليل من عبادي الشكور / سبأ آية / 13 )، وقد يصعب على السواد الأعظم منهم الترجمة في القول وليشرحوا فحوى ذلك المقال المتلبس بحاله، مثله كمثل السوار حول المعصم، فما يكون باديا منه إلاّ رشحا بسيطا جدّا مسربا منيرا للهداية، ولكشف الطريق، ولإزالة اللبس والغموض، وفي هذا المقام لا بدّ أن تتفجر المسالك العلمية المتشعبة بكافة فروعها كونيّة أم ربانيّة، ومستقرّها ومنبعها هو القرآن الكريم، فتجد الحرف أو الكلمة أو الجملة أو الآية علامة واضحة للعيان، يدركها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فيحتار في عظمة الخالق، ويعتريه العجز عن ترجمة كل ما يقرأ، وعندها يردّ الأمور إلى الله، ويسطّر في قلمه على محرابه من القرطاس ما يتنزّل من القطر الصافي، ليدخل لمدار كأس العشق والوله، فتنفرج الأسارير، وينطلق لسان الجنان من عقاله الذي طال أمده، ويعبّر عن ذلك الحال لسان الحس، المأخوذ بما داهمه من عظيم القدرة المتنزّلة على هذه المظاهر الكونيّة، لتكسوها حلّة جميلة جدّا، أصلها القرآن الكريم، وفرعها السنّة النبويّة المطهّرة، وأوراقها الأحكام الشرعيّة، بما فيها المعاملات والعبادات والأحكام، وثمارها عالم التجلّي والمناجاة، وكما يقول الحقّ في كتابه العزيز : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد / ق آية / 16 )،وكما يقول رسول الله صلى الله عليه وســـلّم : ( أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد ) رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه وأبي داود في سننه، وكما يقول الصالحون رضي الله عنهم
ناداهم داعي القرب أنّي معكم فأينما تولّوا فثّم نوري يجلى
إن الاسترسال في كنهيّات حقائق القرآن الكريم كلّه إعجاز لله في قوله، وعجز في المخلوقات عن بلوغ غاية الإدراك، ولكن لا يتمّ الشيء إلاّ بوضع النقاط على الحروف، والابتداء بالترجمة في كتاب الله، وبما تجود به الموهبة الربانيّة، وبما يستخرج من لباب الفهم والفكر المنير، يقول الله تعالى : ( إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآيات لأولي الألباب * الّذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السّماوات والأرض / آل عمران آيــــــــــــــــــــــــــة / 190 ، 191 )، فتتكّون عنده الملكة الإلهاميّة والفراسة الإيمانيّة الموصوفة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلّم جملة وتفصيلا، وينهمر ذلك المطر الغزير على صفحات قلوب الأولياء الصالحين، ممن نذروا أنفسهم وكل حياتهم لله، فعندها يتجلّى الكمال الربّانيّ في كلامه القرآنيّ، ويتجاوز آذان الخلق بما يرمي إليه من العلوم السنيّة العالية في قدرها، لتشكّل كلّ كلمة في كتاب الله موسوعة من البحث في طيّات القرآن الكريم، لإظهار جوهرها المكنون لأنّه قدّ آن أوانه، وحان وقته، وهكذا فإنّ أمورا كثيرة تعتبر بحقّ بأنّها من إعجازات الله .
إنّ في هذه العجالة، وبتوفيق الله وعونه، وردّا على أسئلة الرجال من أهل العلم والفضل، مستفسرين عن اسم ( الشجرة ) الّتي أكل منها سيّدنا ( آدم، وحواء ) عليهما السلام في الجنّة، وكان ذلك سببا لهبوطهما إلى الأرض الكونيّة، وكذلك شرح بعض الآيات القرآنيّة، ولمّا تمعّنت ودقّقت النظر بأمد بعيد، وتجولّت بدائرة الفكرة مرّات ومرّات، هداني اللهتعالى، وكتب لي العون والرشد، لأن أقطف من ثمار تلك الكلمة حيثما وردت، وبكلّ مواقعها في القرآن الكريم، ببحث فيه الكشف، والإفصاح عن بعض الأسرار في كنهيّة القرآن الكريم، وذلك بما يقتضيه لسان الحال، مترجما للغة المقال، بأن هذه الكلمة : ( الشجرة ) بحر متفجر، يقول الله تعالى : ( كل يوم هو في شأن / الرحمن آية / 29 )، وخير البحث فيها هو ما كان على مستوى القرآن الكريم كاملا، حتى تتم الفائدة المرجوة، وسيدرك القارىء مقدار عظمة الحقّ سبحانه وتعالى، من خلال قراءة هذا البحث، وأن يمخر عباب ذلك البحر ليخرج له من جوهر العلم المكنون ما يشير للإعجاز في القرآن الكريم، من ناحية كلام المباني وكلام المعاني .
إنّ من أراد ركوب هذا المضمار يجب أن يكون من المتبّحرين في القرآن الكريم تفسيرا وتأويلا، وقليل ما هم، وهنا لا بدّ للإنسان من التطفّل على موائد الكرام ممّن سبقوه في هذا الفن العالي الصفة، علّه أن يقتفي آثارهم ليخرج للخلق الزبدة من اللبن، وبمقدار ما نوّر الله له قلبه، حيث أنّ التعبير على قدر التنوير .
ولقد قسّمت هذا الكتاب إلى بابين، وكل باب لــــه أقسام .
إنّ التلون لهذه الكلمة ( الشجرة ) في القرآن الكريم له دلالات عظيمة حيث أنّ موقعها من الآية الواردة فيها، وهذا دليل ساطع على عظمة اللهتعالى، ولقد قسّمت هذه الآيات مدار البحث إلى ثمانية أقسام، مبنيّة على التحقيق والتمحيص ويليهــــــــا : ( نفحة أنس )، حيث من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، إذا الكل مأجور، ونعتبر هذه الأقسام هي أمّهات رواسي للآيات الواردة بها، حيث يحصل الجمع والتفريق في آن واحد، وهذا فيه مبعث الحيرة، وإنّ شرح هذه الآيات اقتضى التلّون، والاستنباط، والقول الشفّاف الرقيق، حتّى نقدّم ثمرة ذلك للقاريء، وما تقرّ به عينه، ويثلج به صدره، ويزيل عنه كربه، ويصفّي به سريرته، فعندها لا يعلم إلا خيرا، ولا يلمس بشغاف قلبه، إلاّ ما حان قطفه من الثمار الطيّبة الناضجة، لتزوّد الأفهام نباهة، والعقل فكرا وتأمّلا، وأرجو الله أن يكون قد ألهمني لما فيه الصواب، فهو الموفق سواء السبيل ، وهو نعم المولى ونعم النصـير .
ولقد أسميت هذا الكتاب :قبس من نور القرآن الكريم، ويقع في ( 137 ) مائة وسبع وثلاثين صفحة من القطع المتوسّطة.
|