New Page 1
New Page 1
صفحة الطريقة العلوية الدرقاوية على اليوتيوب
----------------
صفحة الشيخ الدكتور احمد الردايده على الفيس بوك
----------------
جمعية الشيخ العلاوي لاحياء التراث العلوي في المغرب
----------------
الطريقة الشاذلية على ويكيبيديا
----------------
صفحه الشيخ الدكتور احمد الردايده على قناه اليوتيوب
----------------
 
 
مؤلفات
رسالة الصيام

 

بسم الله الرحمن الرحـيم
 
المقدّمــة
 
         إنّ الحمد والشكر لله الواحد القهّار، المتفضّل على عباده بالنعم الكثيرة الّتي لا تعدّ ولا تحصى، من العبادات، والطاعات، والأحكام، والمعاملات، ظاهرها وباطنها، فهي بحقّ تعتبر من الأمور المهمّة في حياة الإنسان في هذه الدار، لإقامة حياته على أسسها الصحيحة، لأنّها تنظّم العلاقة بين الإنسان وربّه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين النّاس .
         إنّ العبادات والطاعات بكل تفصيلاتها وحيثياتها هي مدخل ذو باب واسع، يلج منه الإنسان، لينال القرب من خالقه ويكون من المقبولين، ويفوز برضاه في الدار الآخرة، ويفوز بالدرجات العالية، وأعلاها في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يقول الله تعالى : ( إنّ المتّقين في جنّات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مّقتدر / القمر آية / 54 ، 55 ) .
         إن من جملة العبادات التّي فرضها الله على أمّة الإسلام، وعلى الأمم السابقة هي صيام شهر رمضان المبارك، وهذا كلّه يحقّقه القرآن الكريم والأحاديث النبويّة الشريفة في أكثر من موقع تبيانا وتوضيحا، وإرشادا بالعبارة والإشارة والنصح لكلّ ذي عقل سليم مفكّر منير، فتجد أنّ الصيام يدخل في كثير من الأحكام الشرعية الواسعة المفروضة على المسلم تخصيصا وتعميما، وهذا يدلّ على شموليّة الدين الإسلاميّ دون غيره من الأديان السّماويّة السابقة، لأنّه دين التشريع الكامل الّذي أتى به القرآن الكريم، متنزّلا على قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منجّما، وكذلك السنّة النبويّة الشريفة .
         إنّ اعتقاد الصوم إيجابا لله تعالى عليه وقربة منه إليه، وإخلاصا به له، وسقوط فرض عنه، وأن يتجنّب الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر الثاني، وأن يتمّ الصيام إلى سقوط قرص الشمس، وأن لا ينوي في تضاعيف النّهار الخروج من الصوم .
         أمّا صوم الخصوص فهو حفظ الجوارح الستّ : غضّ البصر عن الاتساع في النظرة، وصون السمع عن الإصغاء إلى محرّم، أو الوزر، أو القعود مع أهل الباطل، وحفظ اللسان عن الخوض فيما لا يعني جمله ممّا إن كتب عنه كان عليه وإن حفظ له لم يكن له، ومراعاة القلب بعكوف الهمّ عنه، وقطع الخواطر والأفكار التي كفّ عن فعلها، وترك التمنّي الّذي لا يجدي، وكفّ اليد عن البطش إلى محرّم من مكسب أو فاحشة، وحبس الرجل عن السعي فيما لم يؤمر به ولم يندب إليه من غير أعمال البرّ، فمن صام تطوّعا بهده الجوارح الستّ وأفطر بجارحتين : الأكل والشرب والجماع، فهو عند الله تعالى من الصائمين في الفضل لأنّه من الموقنين الحافظين للحدود، ومن أفطر بهذه الستّ أو ببعضها وصام بجارحتين : البطن والفرج، فما ضيّع أكثر ممّا حفظ، فهذا مفطر عند العلماء صائم عند نفسه، وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه : أيا حبّذا نوم الأكياس كيف يعيبون قيام الحمقى وصومهم، ولذرّة من تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترّين، ومثل من صام عن الأكل وأفطر بمخالفة الأمر مثل مسح كلّ عضو، فصلاته مردودة عليه لجهله، ومثل من أفطر بالأكل والجماع وصام بجوارحه عن النهي مثل من غسل كلّ عضو مرّة واحدة وصلّى، فهو تارك للفضل في العدد إلاّ أنّه مكمّل للرضى بحسن العمل، فصلاته متقبّلة لأحكامه للأصل، وهو مفطر للسعة صائم في الفضل، ومثل من صام من الأكل والجماع وصام بجوارحه الستّ عن الآثام، كمثل من غسل كلّ عضو ثلاثا ثلاثا، فقد جمع الفرض والفضل أكمل الأمر والندب، فهو من المحسنين، وعند العلماء من الصائمين، وهذا صوم الممدوحين في الكتاب الموصوفين بالذكر من أولي الألباب .
         إنّ التبحّر في ماهية وكنهيّة شهر رمضان المبارك هو إبحار في محيط لا ساحل له، ومهما كتب الكاتبون، وبحث الباحثون، واجتهد العلماء العاملون في إبراز حقائق شهر رمضان فلا يغرفوا من ذلك المحيط إلاّ الشيء القليل، كيف لا وهو الوحيد من كلّ أعمال ابن آدم الّذي يجزي عليه الحقّ بنفسه، وأضافه له، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( قال الله عزّ وجلّ : كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصيام فإنّه لي وأنا أجزي به، والصّيام جنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إنّي أمرؤ صائم، والّذي نفس محمّد بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربّه فرح بصومه ) رواه البخاري في صحيحه كتاب الصوم، ورقم الحديــــث ( 1771 )،والنسائي في سننه كتاب الصيام ورقم الحديث ( 2187 ) .
         يتّضح من هذا الحديث بأنّ الصيام له أهميّة كبيرة عند الله تعالى، كيف لا ومعناه الصون، أي صون الجوارح الظاهرة، الّتي تجترح الحسنة والسيّئة،وذلك بالإمساك عن الطعام والشراب والمفطّرات والوقوع في الخطأ والمعصية، وهو ما علّمنا الرسّول صلّى الله عليه وسلّم في حديثه أعلاه كيف يكون سلوك الصائم يوم صومه، لقد جعل له خطّة ومنهاجا يسير عليه طيلة شهر رمضان، أمّا الجوارح الباطنة فهي أن نصونها بأن لا تفكّر ولا تتوجّه إلاّ لله تعالى وبخاصّة القلب، فالقلب هو محلّ نظر الله تعالى لعبده مصداقا لما ورد في الأثر المحمّديّ : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )رواه مسلم في صحيحه كتاب البرّ والصلة والأدب ورقم الحديث ( 4651 ) .
         لقد أعدّ الله من الأجر والثواب للصائم يوم القيامة الشيء الكثير، وأقلّ ذلك أن جعل للصائمين بابا خاصّا بهم يدخلون منه إلى الجنّة، ولا يدخل منه أحد غيرهم، وفي هذا شأن عظيم حيث ينال الصائم مغفرة الله ورضوانه، لقد ورد في الأثر المحمّديّ ما يشير إلى ذلك صراحة بالعبارة دون الإشارة : فعن سهل رضي الله عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال : ( إنّ في الجنّة بابا يقال له الريّان يدخل منه الصّائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال : أين الصّائمون ؟، فيقومون لا يدخل أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد )رواه البخاري في صحيحه كتاب الصوم ورقم الحديــث ( 1763 ) .
         كما أنّ الصيام يتشفّع لصاحبه عند الله يوم القيامة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصّيام : إي ربّ منعته من الطّعام والشّهوات بالنّهار فشفّعني فيه، ويقول القرآن : منعته من النّوم باللّيل فشفّعني فيه، قال : فيشفّعان )رواه الإمام أحمد في مسنده مسند المكثّرين من الصحابة ورقم الحديـــــث ( 6337 ) .  
         كما أنّ دعوة الصائم لا يردّها الله إكراما منه لعباده الصائمين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه،
قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الإمام العادل، والصّائم حتّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السّماء، ويقول : بعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين )رواه ابن ماجة في سننه كتاب الصيام ورقم الحديث ( 1742 ) .
         إذا فالصيام من الأمور المطهّرة لقلب ونفس وسريرة الإنسان، لأنّه يتخلّله كثرة ذكر الصائم لله تعالى، وقراءة القرآن، والتسبيح والتهليل طيلة هذا الشهر الكريم، فإذا نظر الله تعالى لقلب عبده وجده صافيا كالشاشة البيضاء، وقد خلصت النفس من حظوظها ورعوناتها ووساوسها وشهواتها المتعلّقة بالمحسوسات، فعندها تتغلّب اللطافة على الكثافة، ويستشعر الإنسان حلاوة الصوم، علّه أن يكون من أهل مقام الأنس والمجالسة والمكاشفة، ولقد ورد في الأثر المحمّديّ : عن جابر رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : ( لا تلجوا المغيّبات فإنّ الشّيطان يجرى من أحدكم مجرى الدمّ، قلنا : ومنــك ؟، قال : ومنّي، ولكنّ الله أعانني عليه فأسلم )رواه الترمذيّ في سننه كتاب الرضاع ورقم الحديث ( 1092 ) .
         إنّ من رقّ قلبه وصفي سرّه يكشف الله له عن الكثير من أسراره في ملكه، فعندها تجوب روحه الطيّبة في رحاب الله العلويّة حيثما شاءت القدرة الإلهيّة منتقيا الطيّبات من العلوم الربانيّة الموهوبة عطاء غير مجذوذ وبغير حساب .
         إنّ الفضل والموهبة الربانيّة يتنزّلان لعباده من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، من عالم المكانة العليا إلى عالم المكان دون حصر أو تحيّيز ليكون متلوّنا، تارة تشريعا للمخلوقات بعامّة، وتارة تحقيقا لأهل العلم والولاية بخاصّة .
         إذا في الصوم خاصيّة أعلى من أن تبلغ مكنونها مدارك العقول البشريّة، وإنّ مكانة الصوم عند الله وما ينطوي فيه من أسرار اختصّه بها، والّتي يفوح شذاها من فم الصائم بعد الزوال، وكما ورد في الحديث السابق : ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ).
         إنّ أقسام الصيام هي : ( صيام رمضان، صيام الكفّارات، الصيام المنذور، الصيام عن الكلام، وغيرها )، وأمّا الكفّارات فهي : ( كفّارة الصيام، كفّارة اليمين، كفّارة الظهار، كفّارة القتل )، أمّا كفّارة الصيام، وهي المراد بيانها هنا : فهي الّتي تجب على من أفطر في أداء رمضان، أو صيام النفـــل ( التطوّع )، وسيرد ذكر ذلك فيما بعد .
         إنّ الصيام المفروض على الإنسان نوعان : الأوّل : الصيام عن المفطّرات من الأكل والشراب والغيبة والنميمة وغيرها، والثاني : هو الصيام المعنويّ للقلوب من أن لا تشهد إلاّ الله تعالى، وتفنى عن العوالم طرّا بأسرها، ولا ترى للغيريّة أثرا .
         لقد فرض الله الصّيام على الأمم السابقة كما فرضه على أمّة الإسلام بنصّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة وإجماع المسلمين، يقول الله تعالى : ( يا أيّها الّذين أمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون * أيّاما مّعدودات فمن كان منكم مّريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوّع فهو خير لّه وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون / البقرة آية / 183 ، 184 ) .
          فهذا أمر تعبديّ لكافة الأجناس من بني الإنسان، وهو عبادة لهم ووسيلة تقرّبهم إلى الله زلفى، وأجمع المسلمون على : أنّ صيام رمضان فرض، وأنّه أحد أركان الإسلام، فمن أنكر فرضيّته كفر، إلاّ أن يكون ناشئا ببلاد بعيدة لا يعرف فيها أحكام الإسلام فيعرّف بذلك، ومن تركه تهاونا مع الإقرار بفرضيّته فهو على خطر، وإنّ الآية أعلاه تحوي فريضة الصيام على الأمم السابقة، وهذا أمر لا اجتهاد، ولا رأي للإنسان فيه .
         كان الصيام المفروض على الأمم السابقة يستمرّ من بعد مغيب الشّمس فيفطر أوّلا ثمّ يمسك بعدها عن الطعام والشراب والمفطّرات إلى مغيب شمس اليوم التالي، وهكذا على مدار كلّ أيّام رمضان، وهذا فيه مشقّة كبيرة وبالغة على النفوس، ولكنّ الله بلطفه وكرمه وجوده خفّف على أمّة الإسلام حيث جعل لهم السحور، وصيامهم كلّ يوم من طلوع الفجر إلى مغيب الشّمس فقط، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال : قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم : ( تسحّروا فإنّ في السحور بركة )رواه البخاري في صحيحه كتاب الصوم ورقم الحديث ( 1789 ) .
         ومن السنّة النبويّة أن يتسحّر المسلم ولو على حبّة تمر، أو مضغة لبن، أو شربة ماء، أو أيّ شيء آخر ولو قلّ، حتّى يخالف الأمم السابقة في صيامها، وهذه مزيّة أعطاها الله لأمّة الإسلام فقط دون الأمم السابقة، وذلك من فضله تعالى، وإكراما لرسوله المصطفى صلّى الله عليه وسلّم .
         لقد أسميت هذا الكتاب : رسالة الصيام، حقيقتها، أحكامها، بعض من عبرها، وتمّ تقسيمه إلى بابين، هما
الباب الأوّل : الحكمة من الصيام، وفضائله، ومثليّته، وفوائده .
الباب الثاني : أحكام الصيام وما يتبع ذلك .
        إنّ لكلّ باب من هذين البابين من الشرح والتوضيح المجزي، أضف إلى ذلك بعض التوضيحات والرشفات النورانيّة الّتي تدخل بناحية تحليليّة ومشرّحة، وذلك لإشباع الموضوع بالحقائق الكثيرة، والتنويه عنها تارة من باب الإشارة وتارة من باب العبارة، علّها أن تدرك عقول وأسماع الموحدين، ليتنبهوا إلى الفوائد العظيمة الّتي طواها الله في الصيام سواء كانت تعبّديّة أو معنويّة أو حسيّة .  

        يقع هذا الكتاب في ( 160 ) مائة وستّين صفحة من القطع الكبيرة .